وكالة أنباء الحوزة - التراث هو شخصية الأمة ووجودها التاريخي، وهو الماضي الحي الذي يُعدّ مصدراً مهماً من مصادر المعرفة على شتى الأصعدة العلمية والثقافية للأمة، وبقدر ما يمثل الاهتمام بالتراث جزءاً من الأمانة والوفاء لأولئك الأعلام الذين تركوا هذه الكنوز المعرفية، فإنه يمثل أهمية كبرى للأجيال لمعرفة جذورها وتراثها، وفِهم القيم التي سادت هذا التراث لكي تكون على وعي تام بموقفها منه وتعكس استيعابها له.
فالتراث يمثل جزءاً مهماً من أي عمل إبداعي وركناً أساسياً من مرتكزات الفقيه والفيلسوف والكاتب والشاعر والمؤلف والمفكر والفنان كما يشكل عنصراً مهماً من منظومته وثوابته الفكرية والعلمية والابداعية، فهو عندما يصل إلى المستوى المطلوب من هضمه للتراث وتمكنه منه يكون على جانب كبير من الوعي لإدراك الحقيقة التاريخية والشعور بها وامتلاكها.
فمعرفة السمات الحقيقية للتراث من قبل أي عامل في مجالات العلوم المختلفة والعمل وفقها يشكل الالتحام بين الحاضر والماضي لخلق هدف إنساني يكون مجسداً لما يحمله المجتمع من قيم ومبادئ ومعتقدات، لذلك كان الاهتمام بالتراث من أولويات الأهداف التي سعت العتبة الحسينية المقدسة لتحقيقها بعد سقوط النظام البائد حيث أوعز سماحة المتولي الشرعي للعتبة الشيخ عبد المهدي الكربلائي بإنشاء مركز يُعنى بالتراث وحفظه ودعمه بالكامل من قبله، بتوفير كافة الاجهزة المتطورة للعاملين فيه سُمِّيَ بـ (مركز الإمام الحسين لترميم وصيانة المخطوطات ورعاية الباحثين).
مقتنيات الخزانة
عن مهام هذا المركز ونشاطاته وأهدافه التقينا بمديره السيد مناف لطيف حميد التميمي الذي حدثنا في البداية عن مقتنيات المركز وأقدم المخطوطات فيه قائلا:
لم تكن محتويات خزانة العتبة الحسينية المقدسة قبل سقوط النظام الدكتاتوري البائد تشكل سوى عدد قليل من المخطوطات لا يتعدى السبعمائة مخطوطة رغم التاريخ الطويل لهذه الخزانة الذي يمتد لأربعة عشر قرناً، حيث تؤكد المصادر وجود كثير من المخطوطات والنوادر التي فُقدت بسبب الغارات الهمجية التي تعرّضت لها كربلاء وخاصة من قبل الوهابيين والبعثيين، ولكن ولله الحمد فقد استطاع المركز بعد سقوط النظام البائد أن يعوّض الخزانة ولو بجزء مما فقدته في العقود المظلمة، حيث تضم الخزانة حالياً حوالي (5600) مخطوطة استطاع المركز اقتناءها عن طريقي الشراء والإهداء، وهي تحتوي على علوم مختلفة كالفقه والأصول والفلك والطب والحساب واللغة والأدب وعلوم أخرى، أما أقدم المخطوطات التي تضمها الخزانة فهي نسخ من القرآن الكريم تعود إلى القرن الأول والثاني الهجري، ومنها نسخة تنسب إلى الإمام زين العابدين (ع) ويعمل المركز الآن على تحقيقها، كما تضم الخزانة عدّة أجزاء من كتاب المناهل للسيد محمد المجاهد (1180 ــ 1242هـ / 1766 ــ 1842م) بخط يده وهو من علماء كربلاء.
الصيانة الوقائية والمختبر
أما عن العمليات التي تُجرى على المخطوطة قبل إيداعها في الخزانة قال التميمي:
هناك شقّان في هذه العملية، الأول: هو الصيانة الوقائية للمخطوطة والذي يتمثل بتوفير بيئة مناسبة لخزن المخطوطة من خلال توفير درجة حرارة ودرجة رطوبة وشدة ضوء مناسبة للخزن، وضمن معايير معينة مُتفق عليها عالمياً، كما يتم تنظيف المخطوطة من العوالق والغبار والأتربة.
أما الشق الثاني من عملنا: فهو عملية ترميم المخطوطة وهي عملية خاضعة أيضاً لضوابط عالمية حيث تلقّى كادر المركز عدة دورات تدريبية متخصصة في ترميم وصيانة المخطوطات.
وتبدأ هذه العملية بتصوير النسخة الخطية للمخطوطة المراد ترميمها من الغلاف إلى الغلاف وهو يعتبر توثيقاً أولياً للنسخة ثم ترسل هذه النسخة إلى المختبر التابع للمركز الذي يجري عدة عمليات عليها منها:
1 ــ فحص حامضية الورق ومعالجته.
2 ــ فحص مقدار ثباتية الطبقات اللونية على الورق والتي تشمل الحبر والألوان الداخلة في زخرفة المخطوطات.
3 ــ تشخيص الإصابات الفطرية في المخطوطة ومعالجتها باستخدام مواد سامة للقضاء عليها وهذه المواد هي بنفس الوقت صديقة للمخطوطة والعاملين والبيئة
4 ــ تحضير اللواصق السليلوزية المستخدمة في عملية الترميم وتلوين الورق وعجينة الورق التي تدخل في عملية الترميم.
الترميم
بعد إجراء عملية فحص المخطوطة ومعالجتها في المختبر تحوّل إلى قسم الترميم حيث توضع لواصق حسب الطريقة التي تتبع في عملية ترميمها، وهناك عدّة طرق في ترميم المخطوطات، منها: استخدام عجينة الورق أو استخدام الورق الياباني، كما يتم إكمال النواقص من المخطوطة من الورق ــ وليس النص ــ وتقوية الطبقات اللونية وتدعيمها إذا كانت ضعيفة لضمان عدم تساقطها.
وبعدها تُخاط أوراق المخطوطة بنفس الطريقة التي خيطت به سابقاً، ويعمل لها مدرجة أيضا بنفس الأسلوب القديم، ثم يوضع لها بطانة من ورق (الأبرو) وهو فن تركي قديم يعود إلى العصر السلجوقي، والأبرو كلمة فارسية تعني (الغيوم أو السحاب)، أما في اللغة التركية فتعني حاجب العين وقد استخدمه الخطاطون في تزيين لوحاتهم الخطية واستخدمه الصحافون في تزيين الكتاب، ويتم صناعة هذا الورق في المركز من ألوان ترابية وبنفس الاسلوب الذي صُنع قديماً.
ويواصل التميمي حديثه عن عملية ترميم المخطوطة قائلا: بعد إكمال عملية ترميم المخطوطة وخياطتها نقوم بترميم الغلاف الخارجي لها إن وِجد، أما إذا كانت المخطوطة بدون غلاف فيتم عمل غلاف جديد من الورق المقوّى والجلد الطبيعي الذي يحاكي الاسلوب القديم الذي نسخت به المخطوطة أو الذي يناسب تاريخ نسخ المخطوطة، وهناك عدة أنواع لصناعة الأغلفة استخدمت قديماً منها:
1 ــ استخدام الجلد الطبيعي في صناعتها والمأخوذ من الماعز أو الأغنام أو الأبقار.
2 ــ فن (اللاك) وهو نوع آخر من الأغلفة يحتوي على رسوم معينة ويسمى بالفارسية (گل مرغ) ويعني الورد والطيور وقد استخدمه الإيرانيون في صناعة الغلاف الخارجي للمخطوطة.
3 ــ التذهيب على الجلد
وبعد إكمال ترميم المخطوطة وصناعة الغلاف أو ترميمه يتم صنع علبة تحفظ بها المخطوطة وتنقل إلى الخزانة لحفظها مع توثيق كل المراحل التي مرّت بها المخطوطة والاحتفاظ بها في الخزانة التي تتوفر بها الشروط والمقاييس المناسبة لحفظ المخطوطة من درجات الحرارة والرطوبة وشدة الضوء، ويستغرق عمل ترميم المخطوطة الواحدة أحياناً إلى عدة أشهر حسب الضرر الذي تعرضت له.
نشاطات أخرى
وعن نشاطات المركز الأخرى قال التميمي:
إن باب المركز مفتوح للباحثين والمحققين للاستفادة منه وقد طلب بعضهم نُسَخَاً من المخطوطات لتحقيقها فقام المركز بتقديمها لهم مصورة بصورة عالية الجودة، كما دعم المركز المحققين والباحثين في مجال الدراسات العلمية الحديثة حول المخطوطات ومنها رسالة ماجستير حول (خصائص الفطريات المرافقة للمخطوطات)، وهي دراسة تتعلق بالفطريات التي تصيب المخطوطات قام بها أحد الطلبة، فدراسة علم الترميم بحد ذاته هو علم مستقل يحتوي على الدراسات البايلوجية والدراسات الفطرية ودراسات أخرى حديثة بدأت تنشط على علم المخطوطات وعملها من ضمنها هذه الرسالة.
كما كان من نشاطات المركز حول هذا العلم تسجيل ست سلالات فطرية في مخطوطات المركز، وتم تسجيلها في المركز الدولي للمعلومات الإحيائية الأمريكي (أم سي دي أي) وهذا المركز يعتبر بنك للجينات في العالم وقد قام بهذه الدراسة الدكتور عدنان عبد الجليل الفتلاوي أستاذ كلية الزراعة في جامعة كربلاء وذلك بعد أن قام باختبار عدة مخطوطات وأخذ مسحات منها معتمداً في دراسته على دي أن أي.
كما قام المركز ــ إضافة إلى ذلك ــ بتبني تحقيق وطباعة الكتب التراثية لأعلام الشيعة وطباعة الدراسات الحديثة في شتى المجالات العلمية المختلفة ويعمل الآن على إكمال مشرعين مهمين هما:
أولاً: عمل معجم اسمه (المعجم التأصيلي المقارن لألفاظ القرآن الكريم) للدكتور ستار عبد الحسن رئيس قسم الدراسات المسمارية في كلية الآثار جامعة القادسية وهو معجم مهم يدرس الألفاظ القرآنية ومقارنتها مع الألفاظ العبرية القديمة وأصولها في اللغات السامية.
ثانياً: تحقيق شروح دعاء الصباح لأمير المؤمنين ويحتوي على حوالي (45) شرحاً باللغتين العربية والفارسية
وهناك موقع الكتروني يحتوي على فهرسة لمخطوطات المركز ونشر نشاطاته.
محمد طاهر الصفار